دييغو مارادونا: العبقرية المجنونة.. أسطورة من الوحل إلى المجد
دييغو أرماندو مارادونا (1960–2020) ليس مجرد اسم في تاريخ كرة القدم، بل هو ظاهرة ثقافية واجتماعية وسياسية. يمثل مارادونا مزيجاً فريداً من الموهبة الكروية الخارقة والشخصية المثيرة للجدل، صعد من فقر مدقع ليصبح بطلاً قومياً في الأرجنتين، وإلهاً كروياً في نابولي، وأحد أعظم من لمس الكرة في التاريخ، إن لم يكن الأعظم على الإطلاق.
1. النشأة الصعبة: من (فيلا فيوريتو) إلى الملاعب
ولد دييغو مارادونا في 30 أكتوبر 1960 في لانوس، إحدى ضواحي بوينس آيرس الفقيرة. نشأ في حي فيلا فيوريتو المكتظ، وكانت طفولته صعبة للغاية. عاش في كوخ صغير مع عائلته الكبيرة، وكان الفقر هو الخلفية التي تشكلت عليها عبقريته.
في سن السابعة، حصل مارادونا على أول كرة جلدية له، ومنذ تلك اللحظة، أصبحت الكرة امتداداً لقدمه اليسرى الساحرة. تم اكتشاف موهبته وهو في الثامنة من عمره وانضم إلى فريق الناشئين لوس سيبوليتاس (Los Cebollitas) التابع لنادي أرجنتينوس جونيورز. قاد هذا الفريق إلى سلسلة انتصارات مذهلة بلغت 136 مباراة دون هزيمة، وكان يسلي الجماهير بمهاراته السحرية بالكرة بين شوطي المباريات.
ظهر مارادونا لأول مرة كلاعب محترف قبل أن يكمل عامه السادس عشر مع أرجنتينوس جونيورز، وسرعان ما أصبح النجم الأبرز في الأرجنتين، مما قاده إلى الانضمام لنادي بوكا جونيورز، حيث حقق أول لقب دوري في مسيرته عام 1981.
2. سنوات المجد الأوروبي: برشلونة ونابولي
برشلونة (1982-1984)
انتقل مارادونا إلى نادي برشلونة الإسباني بصفقة قياسية عالمية آنذاك، لكن مسيرته في كاتالونيا كانت مليئة بالصعود والهبوط. عانى من إصابة خطيرة (كسر في الكاحل) بعد تدخل عنيف، بالإضافة إلى مشاكل صحية وخلافات مع إدارة النادي، مما أدى إلى رحيله بعد عامين فقط دون أن يحقق نجاحاً كبيراً يوازي اسمه.
نابولي (1984-1992): التحول إلى أيقونة شعبية
كانت المحطة التالية هي التي حولت مارادونا إلى أسطورة خالدة: نابولي الإيطالي. في عام 1984، انتقل إلى النادي الجنوبي، الذي كان يمثل الطبقة العاملة والفقيرة في إيطاليا، في مواجهة الهيمنة الاقتصادية والرياضية لأندية الشمال الثرية (يوفنتوس وميلان).
- البطل الشعبي: لم يكن انتقاله مجرد صفقة رياضية، بل كان انتصاراً اجتماعياً وسياسياً لسكان نابولي. مارادونا، الفقير الذي أصبح ثرياً، حمل على عاتقه أحلام مدينة بأكملها.
- الإنجاز الخالد: قاد مارادونا نابولي إلى الفوز بلقب الدوري الإيطالي مرتين (1987 و 1990) ولقب كأس الاتحاد الأوروبي (1989)، وهي الألقاب الكبرى الوحيدة للنادي في تاريخه حتى ذلك الحين. تحولت نابولي إلى "مدينة دييغو"، وأصبح مارادونا يُعبد كبطل جالب للكرامة.
3. كأس العالم 1986: قمة العبقرية و"يد الرب"
كانت كأس العالم 1986 في المكسيك هي اللحظة التي تركت بصمة مارادونا الكروية الأبديّة في التاريخ. بصفته قائداً للمنتخب الأرجنتيني، قدم مارادونا أداءً فردياً وصف بأنه الأعظم في تاريخ بطولات كأس العالم.
-
مباراة إنجلترا: في ربع النهائي ضد إنجلترا، سجل هدفين أصبحا رمزاً لمسيرته:
- "يد الرب" (Hand of God): الهدف الأول، الذي سجله بيده، ووصفه لاحقاً بأنه "قليلاً برأس مارادونا، وقليلاً بيد الرب".
- "هدف القرن": الهدف الثاني، والذي راوغ فيه مارادونا خمسة لاعبين إنجليز وحارس المرمى على مسافة 60 متراً، في غضون 10 ثوانٍ، ليضعه في الشباك. هذه المراوغة جسدت العبقرية الفنية التي لا يمكن تقليدها.
- التتويج: قاد مارادونا الأرجنتين للفوز بالبطولة، وحصل على الكرة الذهبية كأفضل لاعب فيها، مُرسخاً مكانته كأفضل لاعب في جيله.
4. الجدل والمأساة: السقوط من القمة
كانت حياة مارادونا خارج الملعب مضطربة بقدر عبقريته داخله. أدت صراعاته مع الإدمان، بدءاً من منتصف الثمانينيات، إلى تدهور حالته الصحية ومسيرته الكروية.
- الإيقاف المخدرات: في عام 1991، عوقب مارادونا بالإيقاف لمدة 15 شهراً بسبب تعاطي الكوكايين أثناء لعبه في نابولي.
- مونديال 1994: كانت نهاية مسيرته الدولية في كأس العالم 1994 حزينة، حيث تم طرده من البطولة بعد ثبوت تعاطيه مادة الإيفيدرين المنشطة، وهي اللحظة التي كسرت قلوب مشجعي الأرجنتين.
- الوزن والمشاكل الصحية: بعد اعتزاله عام 1997، عانى مارادونا من السمنة ومشاكل قلبية وتنفسية خطيرة نتيجة لإدمانه السابق، ولكنه استمر في إظهار شجاعة في مقاومة هذه المشاكل.
5. الإرث الخالد: تأثير يتجاوز كرة القدم
على الرغم من الجدل، ظل مارادونا شخصية مؤثرة ومحبوبة بشكل لا يصدق حتى وفاته في 25 نوفمبر 2020.
- رمز الأمل: في الأرجنتين، يمثل مارادونا انتصار الفقير على القوى العظمى، وكان صوته قوياً في دعمه للقضايا اليسارية والفقراء.
- الإله الكروي: تم تغيير اسم ملعب نادي نابولي إلى ملعب دييغو أرماندو مارادونا تكريماً له، مما يؤكد مكانته الأبدية في المدينة.
- مدرب ومروج للعبة: بعد اعتزاله، تولى تدريب المنتخب الأرجنتيني في كأس العالم 2010، كما درب أندية في الإمارات (الوصل والفجيرة) والأرجنتين.
مارادونا هو روح كرة القدم؛ بطل شعبي، فنان، وثائر. لقد جمع بين النقائض: الضعف البشري والعبقرية الإلهية، مما جعل قصته آسرة ومعقدة، وخلد اسمه كـ "الفتى الذهبي" الذي لم يمت، بل أصبح خالدًا في قلوب الملايين.